قبل أكثر من ثمانين عامًا- تقريبًا- كتب أديب العربية الأستاذ الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي- رحمه الله تعالى- مقالة بعنوان: (دمعة على الإسلام)[1]، تأسَّف فيها كثيرًا على خبرٍ وَصَله من أحد علماء الهند عن تعظيم بعض المنتسبين إلى الإسلام من الهنود التمايل لقبر عبد القادر الجيلاني وغيره من الأولياء، ثم قال متألِّمًا متوجِّعًا من تلك الأفعال: (يعلم الله أنني ما أتممت قراءة رسالته حتى دارت بي الأرض الفضاء، وأظلمت الدنيا في عيني، فما أُبصر ممَّا حولي شيئًا حزنًا وأسفًا على ما آلت إليه حال الإسلام بين أقوام نكروه بعدما عرفوه، ووضعوه بعدما رفعوه، وذهبوا به مذاهب لا يعرفها، ولا شأن له بها. أيُّ عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع فلا تريقها أمام هذا المنظر المؤثر المحزن؛ منظر أولئك المسلمين وهم ركَّعٌ سجَّدٌ على أعتاب قبر ربما كان بينهم من هو خير من ساكنه في حياته، فأحرى أن يكون كذلك بعد مماته).
تذكَّرْت هذه المقالة في زيارتي الأخيرة إلى مصر- حرسها الله من كل سوء- واستشعرت أَلَم المنفلوطي وأنا أدخل في قلب القاهرة إلى مسجد الحسين؛ لقد أفزعني ما رأيت، وهالني تزاحم الناس عند القبر، وتوجُّههم إليه بالدعاء والاستغاثة!!
كنت أظن- بادئ الأمر- أن ما يفعلونه دروشة مجردة ورغبة في إجلال ومحبة الحسين- رضي الله عنه وأرضاه- وقد يكون الأمر كذلك عند بعضهم، ولكنني صُعقت- والله- من الشرك الصريح الذي يمارسه بعض الجهلة دون نكير!!
والله الذي لا إله إلا هو، إنني أُصبت برعشة وقشعريرة تسري في جسدي وأنا أرى أحدهم يجثو على ركبتيه، ويقول بكل تخشُّع وانكسار: مدد يا سيدنا الحسين... مدد...!!
سلَّمت على أحدهم في المسجد وسألته: ماذا يفعل الناس عند القبر؟، لماذا هم مجتمعون هكذا؟!.
فنظر إليَّ باستغراب ونكير وقال: هذا قبر سيدنا الحسين؟
فقلت له: وماذا يفعلون عنده؟
قال: يا بني، إذا كنت محتاجًا، أو مريضًا، أو مهمومًا، فالتمس العون من سيدنا الحسين.
قلت له: ولِمَ لا نتوجَّه إلى ربِّ الحسين سبحانه وتعالى وهو يقول لنا: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 26]؟!
قال: لهؤلاء الأولياء مكانة عظيمة لا نستطيع نحن الضعفاء الوصول إليها؛ فنحن نتوسل بهم إلى الله[2]!!
ثم اجتمع حولنا بعض العامة، وقال أحدهم: هؤلاء الأولياء: سيدنا الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة... أئمة الهدى، وتحت أعتابهم تُستجلَب الرحمات، وبدعائهم يستغيث ذوو الحاجات.
قلت له: أَوَتَظن أن الله تعالى هو الذي يفرِّج كَرْبك أم الحسين والسيدة زينب؟
قال بكل استغراب: الله جل جلاله هو الذي يفرِّج الكربات، لكنه يضع سِره عند بعض أوليائه، فإذا رضي عنك الولي، كان ذلك سببًا لرضا الله!!، ثم قال لي آخر (بشيء من الغلظة والنكير): أسيادنا يقولون للشيء: كن، فيكون...
وبينما أنا خارجٌ من المسجد وقد دارت بي الدنيا وأظلم الطريق في وجهي، إذا بامرأة عجوز تخرج من باب النساء باكية، وترفع صوتها قائلة: ابني تعب من المرض يا سيدنا الحسين... ابني تعب من المرض يا سيدنا الحسين!!
يا سبحان الله!!
أيحدث هذا في بلد الإسلام وقلعته الحصينة؟!!
أيحدث هذا في بلد الأزهر معقِل العلم والعلماء...؟!!!
أنْ يحدث مثل هذا الشرك في بعض مجاهل الهند وأدغال إفريقيا النائية أمر ليس بمستغرب، بسبب اندراس العلم وقلَّة العلماء، لكن الغريب كل الغرابة أن يحدث مثل هذا في مأرز الإسلام وقلبه النابض!!!
حقيق بكل مسلم غيور على الملَّة أن يبكي بدل الدموع دمًا وهو ينظر أو يسمع عن تلك الشركيات المحادَّة لدين الله تعالى...
حقيق بكل داعية مخلص أن يتفطر قلبه ألمًا وحزنًا، وهو ينظر إلى هؤلاء الناس وأولئك وهم يتيهون في بيداء الشرك ويتخبطون في ظلمة الخرافة.
حقيق بكل عالم وَرِع يريد السلامة وبراءة الذمة، أن لا يهنأ بطعام ولا شراب، ولا يتلذذ بمنام أو متاع، حتى يؤدي زكاة عِلْمه، ويمحض النصيحة لأمته، ويجدد ما أفسده العوام وأهل الأهواء من عقيدة الإسلام. وليتذكروا قول الله تعالى: {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأعراف: 165].
وما زاد من ألمي كثيرًا أنني قرأت عند مدخل جامع الحسين فتوى فقهية معلَّقة على لوحة كبيرة تؤكد جواز الصلاة في المساجد التي فيها قبور، وترد على القائلين بالتحريم!!!
يا قرَّاء الإسلام...
أنتم حفظة القرآن الكريم وقرَّاء الإسلام، تُقرئوننا قول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21- 22]، ولا يخفى عليكم أنه لا يوجد في كتاب الله جل وعلا أوضح ولا أبين ولا أصرح من الدعوة إلى التوحيد، والبراءة من الشرك، وسدِّ ذرائعه، وقطع أسبابه.
يا علماء مصر...
أنتم تعلمون أن أخص خصائص دين الإسلام: (التوحيد الخالص)، كما قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]، وكما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]. به بعث جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قال المولى سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وكما قال تعالى أيضًا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
ثم رفع رايته سيد وَلَد آدم صلى الله عليه وسلم؛ فقد تواترت النصوص النبوية الشريفة التي تأمر بذلك وتدل عليه، ومنها قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟، قال: «أن تدعو لله ندًّا وهو خَلَقك»، قال: ثم أي؟ قال: «ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك». قال: ثم أي؟، قال: «ثم أن تزاني حليلة جارك». فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] [3].
بل من شدة إشفاق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أنه حتى مع شدة مرضه الذي مات فيه كان يحذِّر أصحابه رضي الله عنهم من الزيغ والانحراف عنه؛ ففي الصحيحين عن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا: لَمَّا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم (يعني: الموت) طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال، وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذِّر ما صنعوا [4].
ومِن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على البلاغ المبين أنه لم يكتفِ بسماع بعض أصحابه له، بل حرص أن يكون العلم بذلك عامًّا راسخًا؛ فقد روى أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: «أَدخلوا عليَّ أصحابي»، فدخلوا عليه وهو متقنِّع ببردة معافري، فكشف القناع، فقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»[5].
وإني مذكِّركم- أيها الإخوة علماء مصر ودعاتها- بحديث شريف أنتم أعلم به مني، وهو حديث أبي الهياج الأسدي؛ حيث قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» [6].
إن التوحيد وإفراد الله تعالى بالعبادة بمنزلة الرأس من الجسد؛ فما قيمة الجسد إذا فقد رأسه؟ ولن يجد الإنسان الأُنس والأمن ولذة الحياة إلا في ظل العبودية الخالصة لله عز وجل كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم في هذه الآية بالشرك [7].
وكلما ازداد افتقار العبد لمولاه سبحانه وتعالى وانكساره بين يديه، والتجاؤه إليه وحده لا شريك له، كانت ثَمَّ طمأنينته وسعادته. يقول سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
أيها العلماء الأجلاء والدعاة النبلاء...
إنَّ سكوت بعض العلماء وتكاسل بعض الدعاة، وتتابع الناس على ذلك جيلًا إثر جيل، أدَّى إلى رواج سوق الأضرحة وارتفاع أعلامها وتطاوُل مناراتها في كل الأقاليم والمحافظات والمدن والقرى الكبيرة والصغيرة، حتى إن بعض الباحثين في مصر ذكر أن عددها تجاوز ستة آلاف ضريح[8]، يقام في معظمها موالد حاشدة يجتمع حولها الناس، وتُشدُّ إليها الرحال، وتُذبح لها الذبائح، وتُدفع لها النذور[9]. ويحدث فيها من ألوان الخرافة والدجل والعبث ما لا يخطر على بال، وأقل ما يقال في كثير من تلك الممارسات إنها مَسْخ للدين وإزراء بأهل الإسلام وتغييب لعقولهم.
إنها ليست مجرد مظاهر عارضة عابرة، بل هي ممارسات متجذرة في قلوب كثير من الناس، وبقاء هذه الأضرحة والمشاهد حتى اليوم يدل على أن الأمر مستفحل استفحالًا شديدًا، وأن كثيرًا من البسطاء والعوام لا زالوا يجهلون الحق الذي دلت عليه محكمات الشريعة وقواطع الأدلة.
والمؤلم حقًّا أن بعض الطرقية في الآونة الأخيرة راح يحيي بعض معالم القبورية من جديد، ويشيِّد أركانها، ويجدد الدعوة إليها، بل يروِّج لها في كثير من وسائل الإعلام.
أعلم أنه قد تتابع تحذير علماء مصر من هذا الشرك، وسرني جدًّا قول مفتي مصر الشيخ عبد اللطيف عبد الغني حمزة- رحمه الله- بعد أن ذكر بعض الأحاديث النبوية: (من هذه الأحاديث وغيرها يتبين النهي عن البناء على القبور، سواء كان هذا البناء متعلقًا بالميت: كالقبة، أو بالحي: كحُجرة، أو مدرسة، أو خباء، أو مسجد، أو بيوت للاستراحة فيها عند الزيارة وغيرها، أو ما كان على القبر نفسه ليرتفع من أن يوطأ، كما يفعله كثير من الناس، وقد حمله الأئمة على الكراهة إذا لم يُقصَد به الزينة والتفاخر، وإلا كان حرامًا) [10].
وسرني أيضًا قول فضيلة الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية: (أصل الدعوة الإسلامية يقوم على التوحيد، والإسلام يحارب جاهدًا كل ما يقرِّب الإنسان من مزالق الشرك بالله، ولا شك أن التوسل بالأضرحة والموتى أحد هذه المزالق، وهي رواسب جاهلية؛ فلو نظرنا إلى ما قاله المشركون عندما نعى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا له: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فهي الحجة نفسها التي يسوقها اليوم الداعون للتوسل بالأولياء لقضاء حاجة عند الله أو التقرب منه، ومن مظاهر هذه الزيارة أفعال تتنافى كلية مع عبادات إسلامية ثابتة؛ فالطواف في الإسلام لم يُشْرع إلا حول الكعبة الشريفة، وكل طواف حول أي مكان آخر حرام شرعًا، والتقبيل في الإسلام لم يُسَن إلا للحجر الأسود، وحتى الحجر الأسود قال فيه عمر رضي الله عنه وهو يقبِّله: والله! لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما فعلت؛ فتقبيل الأعتاب، أو نحاس الضريح، أو أي مكان به حرام قطعًا) [11].
ونظائر هذه الفتاوى كثيرة جدًّا، وجهود الدعاة والمصلحين في القديم والحديث مذكورة مشكورة، لكنَّ الخطب عظيم ويحتاج الأمر إلى مزيد تأكيد ومضاعفة تذكير؛ فالدعوة إلى التوحيد هي أجلُّ شأن اشتغل به العلماء والمصلحون. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
نعم! ربما كان لبعض الجهلة والمتنفذين من أهل الأهواء مصالح شخصية ومطامع دنيوية تدفعهم إلى خداع العوام، ومن مثل هؤلاء سخر شاعر النيل حافظ إبراهيم بقوله:
أحياؤنا لا يُرزقُون بدرهَمٍ *** وبألفِ ألفٍ يُرزقُ الأمواتُ
مَن لِي بحظِّ النائمين بحفرةٍ *** قامَت على أحجارِها الصلواتُ
يسعى الأنامُ لها ويجري حولَها *** بحرُ النذورِ وتُقرأ الآياتُ
ويقالُ: هذا القطبُ بابُ المصطفَى *** ووسيلةٌ تُقضى بِها الحاجاتُ [12]
لكن الأمر جِدُّ خطير، والأمانة في أعناق العلماء والدعاة كبيرة جدًّا، قال الله تعالى: {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 178]. وسيأتي اليوم الذي يقف فيه العلماء والدعاة بين يدي ربهم ويسألهم سبحانه عن هذه الأمانة: هل بلَّغوها للناس حق البلاغ، أم أنهم فرَّطوا وتكاسلوا؟
صحيح أن اقتلاع البدعة من جذورها أمر شاق وعسير، بسبب غربة الدين، وإلف الناس لها، وتتابع الأجيال عليها، وكثرة المنافحين عنها، لكنَّ استحضار قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم من أعظم ما يثير الحمية والغيرة على دين الإٍسلام. والشرف كل الشرف أن يسير العالِم والداعية في ركاب الأنبياء، ويقتدي بآثارهم، ويعض على منهجهم بالنواجذ. قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد} [الممتحنة: 6].
ولهذا؛ فإن الواجب أن يكون العلماء الربانيون والدعاة الصادقون في طليعة المنافحين عن الدين، المجددين لشريعة سيد المرسلين عليه أفضل السلام وأتم التسليم. ولا يضرنَّهم تطاوُل المفسدين، وتعصُّب العوام. قال الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] وما أجمل قول أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (إن الناس لو كان إذا كبُر عليهم أمر تركوه، ما قام لهم دين ولا دنيا!) [13].
وقديمًا وصف إمام العربية مصطفى صادق الرافعي علماء الكنانة بأنهم: (أَسْهُمٌ نافذة من أسهم الله، يرمي بها من أراد دينه بالسوء)، ثم بيَّن- رحمه الله- رسالة الأزهر في: (أن يجدد عمل النبوة في الشعب، وأن ينقي عمل التاريخ في الكتب، وأن يبطل عمل الوثنية في العادات، وأن يعطي الأمة دينها الواضح السمح الميسر، وقانونها العملي الذي فيه سعادتها وقوتها) [14].
إنَّ الشعب المصري من أرقِّ الناس أفئدة، وأكثرهم عاطفة؛ فهو محبٌّ بطبعه للإسلام وعلمائه؛ فلنستثمر هذه العاطفة الجياشة في نشر العلم وحماية جناب التوحيد، ولْنرعها بتعظيم السّنة ومحبة الهَدْي النبوي.
أيها العلماء والدعاة...
استمعوا إلى المنفلوطي وهو يخاطب أهل عصره قائلًا: (هل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصِّصون قبرًا، أو يتوسلون بضريح؟!
وهل تعلمون أن واحدًا منهم وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته يسأله قضاء حاجة أو تفريج همٍّ؟!
وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين؟!
وهل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل، نهى عنها عبثًا ولعبًا، أم مخافة أن تُعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟!
وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور ما دام كل منها يجرُّ إلى الشرك ويفسد عقيدة التوحيد؟!).
أيها العلماء.. أيها الدعاة:
إنني- واللهِ- أحفظ لكم أقداركم، وأُكبر فيكم قوَّتكم وجَرأتكم في الحق، وما هذه الرسالة إلا عرفان بفضلكم، وتذكير بواجبكم: {وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وأداء لبعض حقكم علينا من النصيحة، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الدين كله في النصيحة، فقال بأبي هو وأمي: «الدين النصيحة» [15].
وليس الهدف من هذه الرسالة هو التحرير العلمي لأطراف الموضوع ومسائله؛ فلذلك مقامه، وإنما هي إشارات مختصرات، ودعوة من القلب لاستنقاذ هؤلاء العوام من أوحال الخرافة التي يتقحمون فيها بلا علم ولا هدىً.
إنها دعوة لأشياخنا وأساتذتنا لاستنهاض الهمم ونصرة الدين.
إنها زفرة ألم أبثها إلى أهل الغيرة وعلماء الملَّة وورثة الأنبياء والدعاة النابهين اللهم هل بلغت!... اللهم فاشهد...
_______________________________
[1] النظرات: (2/ 60- 64).
[2] هكذا قال مشركو العرب في جاهليتهم عن أصنامهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
[3] أخرجه: البخاري، رقم (6861)، ومسلم، رقم (142).
[4] أخرجه: البخاري، رقم (435)، ومسلم، رقم (531).
[5] أخرجه: أحمد: (36/ 108- 109)، رقم (21774و 21775)، والطيالسي: (ص 86)، وصححه الأرناؤوط في تحقيقه للمسند.
[6] أخرجه: مسلم: رقم (969).
[7] أخرجه: البخاري، رقم (6937).
[8] موالد مصر المحروسة: (ص 7).
[9] ذكرت صحيفة (المصري اليوم) بتاريخ: 28/ 12/ 2006م أنه في محافظة البحر الأحمر يُنحر في مولد أبي الحسن الشاذلي ذبائح تصل إلى 120 ألف رأس من الخراف والماعز والإبل!
[10] فتوى رقم (2526) في: 23/ 11/ 1982م.
[11] الفتوى نشرتها مجلة الإذاعة بتاريخ: 7/ 9/ 1957م، نقلًا عن فتاوى كبار علماء الأزهر الشريف حول الأضرحة والقبور والموالد والنذور: (ص57- 60)، جَمْع الدكتور محمد يسري.
[12] في حوار لوزير الأوقاف المصري مع جريدة الأخبار ذكر أن حصيلة النذور في الفترة من: 1/ 7/ 2005م إلى: 30/ 6/ 2006م بلغت 52 مليونًا و67 ألفًا و579 جنيهًا.
[13] البداية والنهاية: (9/ 329).
[14] وحي القلم: (2/ 155).
[15] أخرجه: مسلم، رقم (194).
الكاتب: أحمد بن عبد الرحمن الصويان.
المصدر: مجلة البيان.